في تاريخ سوريا الحديث، تبرز فترة عام 1949 كسنة "الانقلابات" بامتياز، وهي الفترة التي طبعت مسار الدولة السورية لعقود. في قلب هذه العاصفة السياسية، يظهر اسم العقيد سامي حلمي الحناوي، الضابط العسكري الذي قاد الانقلاب الثاني في تاريخ البلاد، لينهي حقبة حسني الزعيم، ويفتح الباب أمام تقلبات أعمق وأخطر في بنية السلطة العسكرية والمدنية. لم يكن الحناوي مجرد انقلابي عابر، بل كان لاعباً رئيسياً في صراع المحاور الإقليمية الذي رسم ملامح المنطقة آنذاك.
النشأة في كنف العسكرية
وُلد سامي الحناوي في مدينة حلب (وتشير بعض المصادر إلى إدلب) حوالي عام 1898. كغيره من ضباط جيله، تلقى تكويناً عسكرياً في العهد العثماني، وخدم في صفوف جيشها. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتشكيل الدولة السورية تحت الانتداب الفرنسي، التحق الحناوي بالجيش السوري (جيش المشرق). تدرج في الرتب العسكرية، وشهدت مسيرته العسكرية مشاركة ميدانية في حرب فلسطين عام 1948.
لم تكن حرب 1948 مجرد حدث عسكري، بل كانت الصدمة التي هزت كيان الأنظمة العربية، وفتحت الباب أمام تدخل العسكر في السياسة. كانت الهزيمة في فلسطين هي الذريعة المباشرة التي استخدمها حسني الزعيم لتنفيذ انقلابه الأول في مارس 1949، والذي أنهى العهد الديمقراطي الأول في سوريا.
الانقلاب الثاني: رد الفعل العسكري
لم يدم حكم حسني الزعيم طويلاً. ففي 14 أغسطس 1949، أي بعد 137 يوماً فقط من انقلابه، قاد سامي الحناوي، الذي كان قائداً للواء الأول في الجيش، الانقلاب العسكري الثاني. لم يكن الحناوي وحيداً، بل حظي بدعم ضباط آخرين، كان من بينهم العقيد أديب الشيشكلي.
كانت الدوافع وراء انقلاب الحناوي مركبة. داخلياً، كان هناك غضب متراكم داخل المؤسسة العسكرية من سياسات الزعيم الاستبدادية وتفرده بالسلطة. لكن السبب المباشر الذي أثار حفيظة الضباط القوميين، ومنهم الحناوي، كان قيام الزعيم بتسليم أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى السلطات اللبنانية، ليتم إعدامه سريعاً. اعتُبر هذا التصرف خيانة ونقيصة بحق ضيف طلب الحماية في دمشق.
فجر ذلك اليوم، تم اعتقال الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي، ونُفذ فيهما حكم الإعدام الميداني السريع. أنهى هذا الانقلاب حقبة الزعيم، وأعاد سوريا إلى نقطة الصفر، لكن هذه المرة تحت سيطرة ضباط جدد.
مشروع الوحدة مع العراق ونهاية المسار
على عكس الزعيم، لم يتولَ الحناوي السلطة مباشرة. لقد فضل البقاء في الظل كرجل عسكري قوي، وأشرف على انتخابات جمعية تأسيسية، وأعاد الواجهة المدنية (ظاهرياً) بتعيين السياسي المخضرم هاشم الأتاسي رئيساً للدولة.
لكن الخطوة الأكثر جذرية التي اتخذها الحناوي كانت توجهه نحو مشروع الوحدة مع العراق. كان الحناوي من أشد المتحمسين لإقامة وحدة فيدرالية مع العراق الهاشمي. هذا التوجه لم يكن مجرد خيار سياسي، بل كان اصطفافاً واضحاً في صراع المحاور الإقليمي؛ محور (العراق-الأردن) الهاشمي المدعوم بريطانياً، في مواجهة المحور (السعودي-المصري) المدعوم أمريكياً، والذي كان حسني الزعيم مقرباً منه.
كان مشروع الوحدة مع العراق هو السبب المباشر لنهاية سامي الحناوي. ففي 19 ديسمبر 1949، قاد رفيق دربه في الانقلاب الثاني، العقيد أديب الشيشكلي، الانقلاب العسكري الثالث. كان الشيشكلي معارضاً شرساً للوحدة مع العراق، ومدعوماً من القوى الجمهورية والبعثية الرافضة للنفوذ الهاشمي، بالإضافة إلى دعم المحور السعودي-المصري. تم اعتقال الحناوي ونفيه، لتبدأ سوريا حقبة الشيشكلي.
الإرث والاغتيال
لم تكن نهاية الحناوي سياسية فحسب، بل كانت دموية. ففي 30 أكتوبر 1950، وبينما كان في منفاه ببيروت، اغتاله حرشو البرازي، وهو ابن شقيق محسن البرازي (رئيس الوزراء الذي أُعدم مع الزعيم)، ثأراً لمقتل عمه.
يُذكر سامي الحناوي اليوم كحلقة رئيسية في سلسلة الانقلابات السورية. كان ضابطاً ذا طموحات سياسية إقليمية كبرى، لكن انقلابه، الذي جاء كرد فعل على انقلاب سابقه، عمّق من مأزق "عسكرة السياسة" في سوريا، وأثبت أن دور الجيش قد تحول من حماية الحدود إلى صناعة الرؤساء وتحديد مصير البلاد.



مرحباً، من فضلك، لا ترسل رسائل عشوائية في التعليقات