النشأة والتحولات الفكرية
وُلد فتحي الشقاقي عام 1951 في مخيم للاجئين بقطاع غزة، لأسرة هُجّرت من قرية "زرنوقة" قضاء الرملة خلال نكبة 1948. حملت نشأته في بيئة اللجوء والفقر أثراً عميقاً في تكوينه. درس في مدارس وكالة الغوث (الأونروا)، قبل أن يلتحق بجامعة بيرزيت لدراسة الرياضيات، ثم سافر إلى مصر في منتصف السبعينيات لدراسة الطب في جامعة الزقازيق.
كانت فترة مصر هي المرحلة التكوينية الحاسمة في حياته. كغيره من شباب جيله، بدأ الشقاقي متأثراً بالفكر القومي الناصري، لكن هزيمة 1967 دفعته نحو مراجعات فكرية عميقة، ليجد ضالته في التيارات الإسلامية. انضم في البداية إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكن حدثاً مفصلياً غيّر مساره: انتصار الثورة الإيرانية عام 1979.
رأى الشقاقي في الثورة الإيرانية نموذجاً حياً لقدرة الإسلام على إحداث تغيير ثوري سياسي وعسكري. وسرعان ما عبّر عن هذا الانبهار في كتيب شهير بعنوان "الخميني.. الحل الإسلامي والبديل"، وهو ما أدى إلى اعتقاله من قبل السلطات المصرية عام 1979. كانت هذه اللحظة بمثابة الإعلان عن ولادة فكر جديد.
تأسيس حركة الجهاد الإسلامي
بعد تخرجه عام 1981، عاد الشقاقي إلى فلسطين ليعمل طبيباً في مستشفى "فيكتوريا" بالقدس ثم طبيب أطفال في غزة. لكن عمله الأساسي كان سرياً: بناء نواة تنظيمية لما سيُعرف لاحقاً بـ "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين".
انطلق الشقاقي من فرضية أساسية: فلسطين هي "القضية المركزية" للأمة الإسلامية، والحل الوحيد لتحريرها هو "الجهاد المسلح" الفوري، وليس عبر العمل السياسي أو التربوي طويل الأمد الذي انتهجته جماعة الإخوان آنذاك. استقطب الشقاقي ورفيقه الشيخ عبد العزيز عودة مجموعة من الشباب المتحمسين لهذا الطرح، وبدأوا بتنظيم خلايا عسكرية.
أدى هذا النشاط إلى اعتقاله مرتين من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مرة عام 1983 ومرة أخرى عام 1986، قبل أن يتم إبعاده بشكل نهائي عام 1988 إلى لبنان، ومنها انتقل إلى دمشق التي أصبحت مقراً لقيادته.
القيادة من المنفى والاغتيال
من دمشق، أدار الشقاقي حركة الجهاد الإسلامي، محولاً إياها من خلايا محلية صغيرة إلى تنظيم له وزن سياسي وعسكري مؤثر. رفض الشقاقي بشدة اتفاقيات أوسلو (1993)، معتبراً إياها تفريطاً في الثوابت الفلسطينية. صعّدت الحركة من عملياتها العسكرية ضد أهداف إسرائيلية، وكان أبرزها عملية "بيت ليد" الاستشهادية المزدوجة في يناير 1995، والتي أسفرت عن مقتل 22 جندياً إسرائيلياً، واعتُبرت ضربة نوعية غيرت قواعد الاشتباك.
هذه العملية وضعت الشقاقي على رأس قائمة الاغتيالات الإسرائيلية. في 26 أكتوبر 1995، وأثناء عودته من زيارة لليبيا (كان يسعى خلالها لوقف ترحيل الفلسطينيين من هناك)، تم رصده من قبل وحدة اغتيالات تابعة للموساد في جزيرة مالطا. وبينما كان متوجهاً إلى فندقه في مدينة سليما، حاملاً جواز سفر ليبياً مزوراً باسم "إبراهيم الشاويش"، اقترب منه مسلح على دراجة نارية وأطلق عليه عدة رصاصات أردته قتيلاً.
الإرث والتأثير
لم يكن اغتيال الشقاقي نهاية لحركته، بل ربما كان ترسيخاً لنهجه. يُنظر إليه اليوم باعتباره "الأب الروحي" للجهاد الإسلامي، والمُنظّر الذي نجح في "أسلمة" الكفاح المسلح الفلسطيني وربطه ببعد عقائدي يتجاوز الجغرافيا الوطنية. ترك الشقاقي إرثاً فكرياً وتنظيمياً لا يزال يشكل، حتى اليوم، أحد أهم ركائز "محور المقاومة" الرافض للتسوية والداعم لاستمرار الكفاح المسلح كخيار استراتيجي وحيد.



مرحباً، من فضلك، لا ترسل رسائل عشوائية في التعليقات